هذه كربلاء .. وأنا لست الحسي
Puesia
أشهد أن أول النور نهاية الظلم
أشهد أنى قد قتلت غيلة
وانتكس العلم
أشهد أنى لم أخض معركة
يفوز فيها المرء تارة
وينهزم
أشهد أنى قد شهدت:
اكتملت شهادتي
وارتفع الآن القلم
وانطوت الصحائف المموهات
جفت الدواة
لم تبق سوى بقعة دم
تجلطت فوق تراب نينوى
وانعقدت
حتى أضاء الأحمر القاني الرماد
يالها من لوحة
قد توجت بالحمرة السواد..
سبحان الذي لون
سبحان الذي رسم!
أشهد أن ليس لهذا القلب إلا دمه
وأن أحدث الردى أقدمه
أن نهاية الجحيم أول الديم
لذا أطل الآن من عل عليكم
فأرى أطلالكم
أنظر أسوان إلى أطفالكم
أرقب دباباتهم وطائراتهم
وأبتسم!
أشهد أنى لم أخض حربا
فلو كان عدوى بان لي
رأى العيان!
آه .. لو جيش حقيقي-
هنا في الكرخ – لاقاني
لأقتحم!
لو رجل!
لو فارس حر تحداني
بأن يبرز لي!
لو بطل .. لألتحم!
لكنها نار..
إله الحرب قد سلطها
على بيوت الأهل حتى انهدمت
فاختنقوا..
واختنقت أولادهم
واحترقت أجسادهم
وتحت وابل من الحمم
تفحمت ذخائر المشرق
"بيت الحكمة" انهار
هوى كما هوى البرج القديم البابلي..
احترقت آخر مخطوطات عصر المعتصم
واشتعلت مؤلفات المنطق..
استفحلت النيران في رسائل الفقه..
فشت .. فالتهمت مصنفات النحو..
والشعر الذي يلزم ما لا يلتزم!
أشهد أنى لم أشاهد ذلك الهول،
فلم يمهلني الصاروخ كي أضم طفلتي
وكي ألم عن وجه الثرى أحشاءها
لم أر بيتي وهو ينهدم!
أشهد أنى لم أجد وقتا
لأقرأ الشهادتين فيه..
لم تتح لي فرصة .. لأغتنم!
إن هي إلا لمحة خاطفة كالبرق..
لا تكفى لكي تفصل ما بين انبجاس النار..
والإحساس بالحرق،
فلم أشعر سوى أنى قد سقطت
في بئر من الجمر
فسالت في اللهيب مهجتي
أشهد أن وجه زوجتي
هو الطيف الذي أظنه:
آخر من ودعني في الرمق الآخر..
أو ودعته
في الحيز الزاخر:
في برزخ ما بين الوجود و العدم
لكنني لم أستطع –
في هذه الهنيهة الأخيرة العجول –
أن أرى الأسارير ..
لكي أقرأ في الوجه الجميل:
ما وراء غيمة الذهول،
أو أستطلع التعبير ..
و الدمع الغزير حين ينسجم
أشهد:
قد كنت كأني النائم اليقظان..
يهوى بي المكان
حيث لا أعلم ما المصير!
أو كأنني قد كنت – فيما يشبه الحلم – أطير..
كان رخ جائع يوشك أن ينهش روحي ..
مثلما تروى الأساطير ..
كأني داهمتني – بغتة – غيبوبة
فكلما حاولت أن أفيق
لا أقدر،
أو كأنني نمت .. ولم أنم!
أشهد أن ليس على الحالم
إلا ما روى
ليس على العاشق إلا ما كتم
وأن أغمض الهوى: أوضحه
وأنني أفشيت سرى
لم يعد لدى ما أفضحه
أشهد أن آخر البخل الكرم
لذا أطل الآن من عل عليكم..
فأحس أنني أكاد لا أعرفكم!
أكاد لا أذكر ما حاق بكم
إلا لمم!
أكاد لا أذكر إلا ظنة
إن إله الحرب قد أصابه السأم!
ضاق بما ظل على الأرض ..
من الشعر .. وموسيقا الشذا
ومن عبير البرعم الغض..
ومن عذرية النغم
فهاج كالثور
ارتدى بزته..
استشاط واحتدم
وجاء يستأسد في وجه النساء
يحصد الأطفال
يغتال الرجال
جاء ينتقم
وعنده من آلة الموت عتاد..
معه زاد..
وجيش من طهاة..
وعبيد .. وحشم
أشهد أن ليس سوى إحدى اثنتين:
أن تخافوا بأسه
أو أن تردوه إذا هجم
فاقسموا ألا تخافوه..
وبروا بالقسم
لا تدعوه – إذا أتى
- يفغر كالغول فما
ويلتهم
أشهد أن أول الجوع نهاية التخم
فلتبقروا بطن إله الحرب..
ولتبادروا
من قبل أن يهضم ما قضم
أشهد أنى قد قرأت في كتاب الشهداء:
أنه من يخف الوحش – على حيطته –
يبطش به
وأنه من يسم الوحش على الخرطوم: يتسم
أشهد:
قد حدثني يوما أبى
فقال : قد حدثه يوما أبوه قائلا:
هذا ترابكم
فموتوا سادة
ولا تعيشوا فوقه خدم
أشهد أنه روى أمثولة
مازلت أستظهرها:
كبشان كانا في فلاة يتناطحان..
والذئب الحكم!
أشهد أنى قد شهدت:
كيف يستنجد بالذئب قطيع من غنم!
أشهد أنني قتلت غيلة
أصبحت أحيا
حيث لا لذة بعد اليوم ..
لا ألم
قتلت غيلة
ولا أدرى لماذا؟
هل نبا السيف..
وخانتني يدي؟!
أم أنكم تركتموني..
دون أن يحمى ظهري أحد
يشرك في الموت .. ويقتسم!
أم هل تراكم – ساعة الشد – توانيتم
فلا سهامكم أصمت
ولا (اشتدت زيم) ؟
قتلت غيلة .. ولا أدرى لماذا؟
ألأن الشعراء آثروا الأمان؟
هل لأن من في مجلس الشعب – أو الشورى- دمى؟
أم لأن الوزراء كلهم
ومستشاري الغرفة العليا .. رمم!
أم هل لأن القائد المغوار خار،
البطل النشمي لا كر .. ولا عزم
لكنه فر...
كما يفعل كل مستبد مثله :
يتخذ الجيش لكي يثبت العرش ..
ويبنى دولة الحراس
والسجون والنقم
وحسبه – يوم الحساب
– أنه صلى وصام
ثم أرسل الزمام
عله يقبل الركن .. ويستلم!
أشهد أنى لم يعد لدى ما أنطقه
وأن أوسع المدى أضيقه
وأنني أطل من عل عليكم..
فأراكم :
نومكم شبه موات
وقيامكم وخم!
وشعبكم يعبد جلاديه ..
والخاصة من خاصتكم
لا يعرفون الفرق بين الله والصنم!
أشهد أن آخر السفوح ..
أول القمم
لذا على الآن أن أخرج من حاضركم
وأختفي
على أن أهجر مستقبلكم
وأنتفي
على أن أطفئ تلك الشعلة السوداء:
من شمس: ( قفا نبك)
إلى البرق الذي:
( أومض في الظلماء من اضم)
أشهد أنى قد شهدت:
أول التوبة آخر الندم
أشهد أن ليس على الشاهد
إلا ما رأى
ولا على الصامت إلا ما وصم
فكيف لي أن أمسح الوصمة؟
ياللذل!
بل كيف لمثلى –
وهو في الجنة-
أن يرضى بغير العدل؟
ويلي!
كيف أستمتع بالحور..
وبغداد دهاها ما دهم!
وتحت أقدام المغول الجدد ..
البصرة ديست
وأهين النجف الأشرف
واستحل كربلاء هؤلاء
من جند إله الحرب..
شر ما أعدته لنا حضارة الغرب..
وما قد أنجبته من نسم
أشهد أن ليس على الصائم
إلا ما نوى
وليس للآكل إلا ما هضم
لذا أصوم الآن ..
عن وليمة اللئام ..
في مأدبة اللحم الحرام..
حيث فيها اختلط الأغراب بالأعراب ..
فاستذأبت الكلاب ..
ثم اصطكت الأكواب بالأنخاب
في عيد النهم !
أشهد أنى قد شهدت:
آخر السماع أول الصمم
لذا أصم الآن أذني
عن شماتة العدو ..
في "قناة" البدو..
عن " إذاعة الرياض"
والقاهرة الكبرى
وعن مفاوضات الترك والعجم
أصد عن موظفي وكالة الغوث ..
وعن منظمات العفو..
عن مندوب هيئة الأمم
أشهد أن أول الهوان آخر الشمم
أشهد أن ليس على الشاهد
إلا ما رأى
ولا على الحاكم إلا ما ظلم
لذا أطل من عل
أحكم بالعدل عليكم
وأحدد التهم:
أنتم مدانون ..
من الرأس إلى القدم
أشهد ..
فلتحاولوا أن تشهدوا معي
على تلك الضمائر التي بيعت لهم
بأبخس الأسعار
بالدينار .. والدولار
في سوق الذمم !
أشهد أنى – من سمائي ها هنا
- أشهد ما لا تشهدون كلكم
لست نبيا .. أوتى الحكمة،
أو جوامع الكلم
لكنني محض شهيد
روحه تحوم في فردوسها غاضبة
وهى تطل الآن من عل عليكم ..
وتعدد التهم:
طاغية العراق ليس وحده
كل ولاتكم طغاة..
حولهم طغم
أشهد أن ليس على الشاهد
إلا ما رأى
ولا على الغاضب إلا ما كظم
لذا أرى عشرة آلاف شهيد
يبصقون الآن من أعلى
على تمثال صدام
ووجه أسد الشام
على لحية مولانا الإمام
أو على طلعة كافور
وخشم خادم الحرم
(أين ترى المقص يا كافور .. والجلم؟!)
أشهد أن هؤلاء كلهم
قد قتلوني غيلة:
حضرة صاحب السمو
الملك الفذ المفدى
وولى العهد منذ كان في المهد
فخامة الرئيس
القائد الملهم
أو هذا الزعيم المحترم!
أشهد أن هؤلاء كلهم قد قتلوني
ولسوف يتركونكم غدًا:
لحما على وضم
قد قتلوني كلهم
ثم استباحوا كلهم أرملتي
لم يختشوا قط ..
ولم يحتشموا،
الأنثى التي تبيع نفسها
أمام الناس تحتشم!
لكنهم عوراتهم مكشوفة
وشحمهم ورم!
أشهد أن ليس عليكم
غير أن تستأصلوا الورم
أشهد أن أول الصحة
آخر السقم
وأنكم – إذا أردتم
-سوف تشفون من الداء الذي
ينخر في نخاعكم من القدم
وأنه ليس سوى: لا .. أو نعم
وأنه ليس على أي امرئ
إلا الذي زعم
وأنني شهدت حتى
لم يعد لدى ما أشهده
وأن أكثر الأسى أوحده
وأنه آن لجرح ناغر
أن يلتئم
أشهد أنى قد شهدت،
اكتملت شهادتي
ورفرف الآن العلم
وانطوت الصحائف المموهات
جفت الدواة
لم يبق سوى نقطة دم
هي المداد الأحمر القاني
الذي به تدون الشهادات
وتستملى المعاني
ثم تجلى
حين تتلى كلها: بالحرف والرقم
أشهد أنى قد شهدت:
انكشف الوجه عن القناع..
فلأطل من عل على أشباحكم
إطلالة الوداع
ثم أختتم:
ليس على الشهيد إلا ما وعى
ولا على الشاعر إلا ما نظم
مارس / أبريل 2003